درس في الاستقالة
إبراهيم محمد باداود
يعتقد البعض أنه بمجرد جلوسه على كرسي المنصب الإداري فإنه قد ملك هذا الكرسي وأن قيامه من فوق هذا الكرسي لن يحدث إلا إلى مكان واحد وهو المقبرة، والبعض الآخر يخطط من أول يوم يجلس فيه على ذلك الكرسي إلى كيفية البقاء أطول فترة ممكنة، فلا يكون هدفه تطوير العمل أو تحقيق الأهداف أو الإنجاز بل شغله الشاغل والهم الذي لا يفارقه والكابوس الذي يؤرقه كل يوم هو لحظة فراقه ذلك الكرسي وفقده منصبه.
في الشهر الماضي قدم لنا أحد الإداريين العالميين درساً في الاستقالة، ذلك هو الرئيس التنفيذي والمؤسس لشركة آبل ستيف جوبز، فقد قال لمحطة سي إن إن (لطالما قلت إنه إذا جاء اليوم الذي لا يمكنني فيه القيام بواجباتي على أكمل وجه ووفقاً للتوقعات المطلوبة من الرئيس التنفيذي، فإنني سأكون أول من يعلمكم بذلك) ثم أضاف قائلاً (لسوء الحظ لقد جاء ذلك اليوم).
وقد وقفت طويلاً أمام تلك العبارات التي بحد ذاتها في نظري هي منهج للإدارة وعرفت من خلالها أن ما أنجزه ذلك الرجل مع شركته لم يأت من فراغ فمن يتحدث بهذه اللهجة وبتلك العبارات هو من يستطيع أن يحقق تلك الإنجازات، فالرجل على الرغم من أنه مؤسس ورئيس تنفيذي لواحدة من كبرى شركات العالم ربحية يعود ويذكر ما وعد به وقاله إذ يؤكد أن قال بأن عليه واجبات يجب أن يؤديها ليس أداءً عادياً بل وعلى أكمل وجه وليس ذلك فقط بل ووفقاً للتوقعات المؤملة منه كرئيس تنفيذي، وفوق كل ذلك فهو لن ينتظر انتقاداً من جمعية عمومية أو إعلام أو رأي عام أو غيرها من الجهات بل سيتقدم بنفسه، وها هو يفعل ما وعد به ويقدم استقالته في هدوء تام وينسحب بعد أن حقق إنجازات عالمية من خلال إنقاذ شركة آبل وقيادتها لتكون في مقدمة الشركات العالمية ربحية، ليس ذلك فقط بل وتطوير أجهزة كمبيوتر انتشرت في أرجاء العالم كافة وهي الآي فون والآي بود والآي باد.
وبغض النظر عن خلفية الحالة الصحية لستيف وتأثيرها فيه فإن بعض أصحاب المناصب الإدارية وعلى الرغم من تقدمهم في العمر وإصابتهم بعديد من الأمراض وقضائهم وقتا طويلا في التردد على المستشفيات والعيادات الطبية فإنهم يرفضون أي دعوة للتنحي عن مناصبهم الإدارية بل إن البعض يطلب إحضار المعاملات لمراجعتها واعتمادها وهو على فراش المرض.
إن هذه الاستقالة في اعتقادي درس مهم يجب أن يعيه كثير من الإداريين، خصوصاً أولئك الذين في بداية مشوارهم العملي والذين يعتقدون أن المنصب الإداري إذا ما تقلدوه فقد أصبح حقاً مكتسباً سواءً أنجزوا من خلاله أم لم ينجزوا، أولئك لا يضيفون شيئاً للمكان الذي يعملون فيه بل المكان هو الذي يضيف إليهم بعد ما يكمل النقص الموجود فيهم سواء كان نقصاً مادياً أو معنوياً، كما أن أولئك يختفون فجأة إن صدر قرار إقالتهم ولا تسمع لهم ذكر أبداً إلا ما ندر وذلك بعد أن كانت سيرتهم تملأ الآفاق، فالبعض يتقلد المنصب وهو يعي أن هذا الكرسي كما أصبح له اليوم فقد يصبح لغيره في يوم ما ولذلك هو يبذل ما في وسعه ليفي بحقوق ذلك الكرسي وواجباته فإذا ما شعر أنه لا يستطيع تنحى عن منصبه بهدوء ليتيح الفرصة لغيره من القادرين، ومثل أولئك تجدهم فرحين مسرورين لا يخشون فراق الكرسي لأنهم كانوا يتحكمون في حركته ولم يكن يتحكم في تحركاتهم.