عشت ردحاً من الزمن أستغرب ميل بعض الأصدقاء والمعارف والزملاء وغيرهم لارتياد المقاهي والاستراحات والمجالس الخاصة والعامة وغيرها ، ثم لما صادقت " مهذاراً " استيقنت يقيناً لا شك بعده أن السبب الرئيس لمثل هذا الحرص يكمن في التنفيس عما تعتمل به الدواخل من أمنيات وتطلعات وأسرار وحتى هموم . تأكد لي أن الإنسان كائن اجتماعي لا يطيب له العيش بمفرده ، وإنما تكون سعادته عندما يكون قريباً ممن يبادله الاهتمام ويمحضه جودة الرعاية ويطارحه الرؤى والأفكار ورتقي بعقله ويمتع روحه من خلال تخّير الكلمات العذبة والمعاني الهادفة والمضامين الإنسانية التي ترطب الدواخل وتثري الفكر وتلهم العقل وتحلق بالوجدان.
من آن إلى آخر وجدتني والحبيب نطرق من غير تعمد في كثير من الأحيان باب حوار اكتشفنا مع الأيام أنه جد شائك ومشكلة لا يزايلنا الشك في خطورتها وصعوبة حلها . نتحدث عن مدى تغلغل العمالة الأجنبية في حياتنا وسيطرة أفرادها على مفاصل الأنشطة المختلفة ، ففي المنزل تم جلب النساء للعمل كمربيات وخادمات والرجال لمزاولة أعمال الحراسة وقيادة السيارات وحتى إدارة البيوت ، وفي المساجد نجدهم باتوا يستأثرون بآلاف الأعمال ليس في مجال النظافة وصيانة المرافق فحسب وإنما حتى في أداء الأذان وإمامة الناس للصلاة لدرجة أن يشك المرء أحياناً أنه في مدينة عربية عندما يستمع إلى أصوات نشاز تصدر من مكبرات الأصوات بالمساجد القريبة والبعيدة ، فهذا يتضح من صوته أنه سوداني وذاك مصري والآخر بنجلاديشي أو هندي ... الخ .
وفي المؤسسات الخاصة نجد أن لهم سيطرة شبه كاملة على الأعمال بمختلف مجالاتها لدرجة أن يستطيع المرء الحلف بأغلظ الأيمان أن ممارسة ثلة منهم للإضراب مدة بسيطة كفيلة بشل حركة الحياة في هذا القطاع أو ذاك إن لم يكن في مجملها ، وهم يمارسون أبسط الأعمال حتى في كثير من الدوائر الحكومية وكأني بأحدنا بات يعجز حتى عن عمل كأسة شاي أو قهوة لنفسه أو يزيل شئ من الغبار العالق على مكتبه !
يتحدث من اتيح لهم زيارة البيت العتيق أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثافة تواجد الأجانب بهما وافتراش الساحات المحيطة بهما وممارسة الشحاذة وأنواع من التجارة وغيرها ، وفي الحج كلنا قرأنا وسمعنا وشاهدنا الحالات الكارثية والفوضى العارمة التي تحدث بأسباب افتراشهم للأماكن المقدسة ، وقد أظهر عدد من الدراسات أن غالبية المتسولين في المملكة من الأجانب سواء في موسمي الحج والعمرة أو طيلة الأعوام.
إن من الإنصاف القول أن للعمالة الأجنبية دور بارز في صناعة الحياة في بلادنا الحبيبة وتشهد بذلك سيطرتهم على كل شرايين الحياة في المجتمع فالخباز منهم وعامل النظافة منهم والعامل بمحل التموينات كذلك والقبوري والطبيب والممرض والسباك والحداد والنجار والمعلم وغير ذلك، وغالبيتهم جاءوا إلى هذه البلاد المباركة بطرق رسمية عبر منافذ رسمية وفقاً لعقود مبرمة تحت مظلة الاستقدام أو استعارة الخدمات أو تأجيرها، غير أنها حقيقة أن هناك من أفرط في الاستقدام لدرجة أن البعض يمارسون هذا الفعل بدون حاجة ماسة إلى ممارسته سواء المتزوجين الشباب أو أصحاب المؤسسات الصغير أو من درج المجتمع على تسميتهم " هوامير التأشيرات " الذين يستقدمون أشخاص لا أعمال مؤمنة لهم، بالإضافة إلى أن كثير من المالكين للأعمال السعوديين تخلو عن الملكية الحقيقية للمؤسسات والشركات والإعمال ايثاراً للدعة والراحة .
إذن فالملومين هم من باعوا فرص الأعمال الخاصة بهم، اما أولئك فلا لوم عليهم ، إذ لم يأتوا إلى هذه البلاد لطلب النزهة وتزجية الوقت ، بل جاءوا وكل أحد منهم ينطوي قلبه على الكثير من الأحلام والأماني والأهداف التي ينتظر تحقيقها خلال اقامته بأرض الحرمين.
إنه لمحق وبشكل كبير من يعتقد أن منافسة المواطن لهم باتت جد عسيرة بل إنها مستحيلة في كثير من الأحيان، لكن في ظني أن ذلك خيار لابد من ممارسته على المدى الطويل بالتزامن مع الجهود التي تبذلها الدولة أعزها الله في مجال إتاحة الفرص للمواطنين وتحجيم مد الاستقدام وتوطين الوظائف ... الخ ، فالملاحظ ان غالبيتهم يزاولون أعمال متعددة ، والملاحظ أيضاً أنهم يطيلون أوقات الدوام ويخططون للأعمال وينظمون جهودهم للسيطرة على مكوناتها ، والتغلب عليهم وإزاحتهم من المواقع التي احتلوها لن تكون إلا إذا توافر في بلادنا المباركة شباب لا يستنكفون من ممارسة الأعمال الشريفة حتى وإن كانت متواضعة أو ذات صبغة فنية ومهنية وتقنية، شباب يتنافسون على البقاء في أعمالهم أطول وقت ممكن وبشكل تتحقق معه الزيادة في الانتاجية والفعالية في الأداء.
بدون ذلك سيظل خطرهم مستشرياً ، وسيظل وجودهم جرح نازف ليس في جدار الاقتصاد فقط وإنما في بنية المجتمع ، وهذا ما يستأهل أن تتظافر من أجل منعه كل الجهود . وهو منتم بحق لدينه ووطنه وأهله من يفعل.
1.30 ظ 9/10/1432هـ الموافق 7/9/2011م
الرياض
الأربعاء سبتمبر 07, 2011 12:37 pm