في سياق حديث غير عابر بل مثله صار من أجمل متع العمر وأفضل المنح في الحياة فاجأني أغلى الأحبة بقوله : أنت يا عبودي تعاني من عدم التقدير لذاتك . والحقيقة تبدو صادمة في كل حين والحق قد لا يرضي اثنين أحياناً لكنه أحق أن يتبع ويُصغى له ليس أحياناً بل في كل حين، والنصيحة يجدر أن تنال حظها من القبول خصوصاً عندما تنبعث من قلب محب ووجدان مشفق .
قد لا يكون من المهم هنا بحث التفاصيل التي دفعت بذياك الحبيب إلى اعتناق هذه الفكرة التي أعترف بأنها صائبة إلى حد لكن في إيحاءات المضمون أفضل محرض إلى أن يراجع كلاً منا حساباته ويتأمل في تفاصيل حياته وسلوكاته ليتبين له إن كان مقدراً لذاته أم مهيناً لها ، فإذا كانت الأولى استمر في ذات الممارسات كلما كان الأمر مناسباً وطور ما يحتاج إلى التطوير حتى تعتدل الصورة، أما إذا كانت الأخرى فالمطلوب أن يسارع إلى ممارسة التغيير في ألوانه الايجابية وصوره المحببة للأنفس المغنية لأشواق القلوب.
إن مما نؤمن به بيقين أن الله تعالى كرّم الإنسان وجعل الكون بأسره خادماً له ،وزرع في كل سوي من بني الإنسان حب الذات وتقديرها وحب التسامي والترفع عن الصغائر والتطلع إلى تحقيق الأهداف السامية والغايات النبيلة والتطلعات الاستثنائية. لقد رزقه جل وعلا نعمة الإدراك وحسن الفهم وفضيلة إعمال العقل والتفكر والتدبر فيما حوله من محسوسات وملموسات ومسموعات ومرئيات وغيبيات، كما منَّ عليه بملكة اختيار ما هو أفضل لعيشه في الدارين الحاضرة والآجلة.
غير أن هناك بعض الصور التي تنم عن إغفال بعض الناس لدواعي هذا التكريم . منها على سبيل المثال إهمال طاعة الخالق جل وعلا من خلال التقصير في أداء الصلوات وباقي ثوابت الدين وممارسة عقوق الوالدين وقطع الرحم التي أمر الله تعالى بها أن توصل وإهمال الزوجة والأولاد وغير ذلك .
إن هناك من لا يهتم بصحته لذا نجده يعب من النعم بلا حساب ولا يزاول نشاطاً حركياً مهما كانت بساطته فيزداد وزنه ويبشع شكله ويتحول جسمه إلى كتلة مترهلة بشكل يحد من الحركة ويمنعه من النشاط وممارسة الفعل الإيجابي المؤثر في الحياة وبدلاً من أن تصير اللقمة مقيمة للصلب صارة كاسرة له .
هناك من يحرص على الارتماء في أحضان البطالة أو يقصر في العمل ولا يهتم بالترقي فيه وممارسته بإخلاص وجودة وإتقان . والأسوأ من يستمرئ العيش مصطحباً أسمال الفقر وذل الشحاذة . هناك من لا يعتني بالنظافة بأشكالها المختلفة ومنها نظافة جسده أو أشيائه أو مظهره الخارجي أو المكان الذي يتواجد به سواء كان المكث قصيراً او طويلاً.
ومنها أيضاً عدم سعي أحدهم إلى التعلم وتطوير الذات فيبقى مرتكساً في حمأة الجهل وكان بإمكانه أن يكون ذا عقل راجح وفكر مستنير وثقافة تجعل حظوظه أوفر بين الأحياء .
ومنها كذلك عدم اهتمام البعض ببناء مساكن تؤويهم وذويهم وتغنيهم عن مذلة التنقل من مكان إلى آخر بين فترة وأخرى وتحفظ عليهم شئ من امكانياتهم المادية التي يستمر نزفها في طول الأيام وعرضها على شكل إيجارات لا أمل في أن تسترد.
إن هناك من يسمح لنفسه بالسقوط في لوثة أي لون من ألوان الانحراف كتعاطي المخدرات أو المسكرات أو التدخين . هناك من يتسلط ويمارس دكتاتورية بغيضه على من حوله بحكم أنه الأب أو الزوج أو المربي أو الرئيس أو القائد ، وهناك من لا يعتني بالمهارات والملكات والمواهب التي وهبها الله تعالى له من حب للاطلاع والكتابة إلى مهارة الرسم والتشكيل إلى غير ذلك مما يؤهله للانتماء إلى نوادي المبدعين والعظماء المنتجين والقفز إلى منصات التتويج.
هناك من لا يبالي بأن يكون كسبه غير مشروع ومصادر ثرائه غير نظامية فيمارس السرقة أو الغش أو يقبل تعاطي الرشوة والسطو على المال الخاص والعام أو أكل الربا أو التربح من ممارسة الجريمة بأنواعها المختلفة من تهريب واتجار في المخدرات والمسكرات إلى بيع الأسلحة للإخوة والفرقاء المتصارعين في هذا البلد أو ذاك ، أو من دعم اوكار الجريمة، أو من خلال التستر على مخالفي الأنظمة ومنتهكي التعليمات، وغير ذلك.
هناك من يتكاسل فلا ينفذ أعماله بنفسه وإنما يكل أمر تنفيذها إلى الآخرين مستغلاً سلطة يملكها أو نفوذاً يتمتع به أو دالة تجعله مرهوب الجانب مجاب الأمر ملبى الطلب .. هناك من يتهرب من تحمل التبعات والتكاليف ويتحاشى تحمل المسئوليات بالرغم من أنه اهل لذلك بما حباه الله تعالى من رشد في الرأي وتميز في الملكات وقدرة على الفعل المتسم بالجودة والاتقان .
إنه لأمر عجيب أن ترى صاحب مركبة فخمة تدل سيمائه على الرقي والتطور يسهم في إفساد البيئة من خلال رمي المخلفات خلال سيره بمركبته في الشوارع والأماكن العامة أو الخاصة غير مكترث بالتعليمات التي تحث على وضعها في الأماكن المخصصة لها ، وأعجب من ذلك أن تراه ممارساً لأشد العنف اللفظي والجسدي ضد زوجته وولده وتتساءل أين ذهبت نتائج التربية والتعليم التي تلقاها هكذا إنسان.
إنه لملوم من لا يسامح الآخرين إذا اخطأوا بحقه من دون عمد أو حتى عن عمد لكنهم مارسوا فضيلة الاعتراف باقتراف الخطأ وطلب المسامحة والصفح ، وهو ملوم من يمارس الأنانية في شكلها السلبي مستغلاً للآخرين غير عابئ بمجاملتهم له أو حرصهم على إرضائه حتى وإن كان من ذلك عليهم مشقة وعنتاً واضحين .
بلا شك أن وجود هذه السمات الإيجابية في الإنسان هو مما يحفزه على الاهتمام بذاته ومن وما حوله .. إنها ما يدعوه إلى الاهتمام بجودة اناقته وعذوبة طلته وجاذبية رشاقته وجمال منظره الداخلي والخارجي . إنها ما يدعو البعض إلى التطاول في البنيان حتى بات يخطط أحدهم لإقامة ناطحة سحاب طولها ألف وستمائة متر ( كيلو ونصف) وعلى التسابق لامتلاك الأفضل على المستويات المعنوية والمادية وإنجاز ما تنتفع بآثاره البشرية من مكتشفات ومخترعات وحلول للمشكلات والمصاعب وتسهيلات لطرائق الحياة .
إنها شرط لسعي المرء إلى تحقيق أرفع المناصب وأعلى الشهادات وأوثق الخبرات، وحيازة القصور المنيفة والسيارات الفارهة والأثاث الفخم والثروات الطائلة ما كان منها ثابت وما كان منقول ، إنها المحرض لأن ينهض المصلي من عز نومه كي يؤدي صلاة الفجر ، وهي الدافع لأن لا يبالي الصائم بشفته المتشققة جراء الجوع والعطش في نهار رمضان الصاهد ، وهي من يقف وراء قرار الرياضي أو الراغب في الحفاظ على صحة جسده وحيويته ونشاطه بالحرص على تمارينه حتى في عز أوقات التعب والانشغال وحب الاسترخاء ، إنها عزاء سامر الليالي الطوال قائماً راكعاً ساجداً قارئاً احتساباً للمثوبة والأجر من المولى جل وعلا، إنها الدافع لأن يبذل المرء جهوداً استثنائية في القراءة والاطلاع والتعلم والكتابة وتنمية الثروة الثقافية وتطوير الذات وتأليف الكتب والعناية بالمهارات والمواهب والملكات والقدرات في زمن تكالبت فيه غالبية الأنفس على حب المادة وربما ممارسة ما يشبه عبادة " الريال " والدولار.
إن الأحداث الأخيرة التي صار يشار إليها في وسائل الاعلام المحلية والاقليمية والعربية ب" الربيع العربي" أفرزت جملة من الحقائق والثوابت التي يجب ان تكون مرتكزاً لفكر وممارسة الإنسان المعاصر في المستقبل أينما كان أهمها قدرة الإنسان على تغيير أخطر الأفكار والتخلص من أعنف الأشرار وأفضع المفاسد ، فقد رزح االسوريون تحت نير الظلم أكثر من خمسين سنة ، والليبيون اكثر من أربعين سنة واليمنيون والمصريون أكثر من ثلاثين سنة والتونسيون نالهم ما نالهم من الظلم والقهر والتسلط والجبروت خلال أكثر من عقدين من الزمان ، لكن عندما قرر الأحرار أن يضعوا حداً للظلم كان لهم ذلك . عندما قرروا إيقاف صنابير نزيف إهانة الذات وشلالات هدر الكرامة كف النزف ،وهاهي الجهود تتوالى لتحقيق التعافي لمجمل الكيانات وليس بعزيز ذلك على الكريم المتعال. إن فيها أجلى مثال على أن تقدير الذات أمر فارق بين إنسان وإنسان آخر ، وربما جيل وجيل آخر وأهل وطن وأهل وطن آخر. والتحدي أن يسعى كل أحد منا لامتلاك هذه السمة الثمينة فلا يرضى بغير التقدير لذاته والصيانة لكرامته بديلاً مهما كان الثمن الذي يستوجب دفعه امتلاكها.
يقول أحدهم : هناك جمال في كل مكان : في زهرة الربيع الوديعة ، وفي ضوء الشمس المرقط في فتحات الغابات، وفي السحب ، وفي كل مكان ، وهناك اعجاز في التجديد، فغروب الشمس يعلن عن نهاية يوم ، ومطلع الفجر يعلن عن بداية يوم آخر، ونحن نعيش في أرض سحرية خيالية ، وقد منحت لنا لنستمتع بها على ؟أنها هبة مطلقة . إنك لست بحاجة إلى وجود المال في حافظتك لتمشي عبر حقل من الزهور البرية أو لتتمشى بجوار مستنقع من نبات الخلنج (شجيرة متفرعة صغيرة يصل ارتفاعها إلى حوالي 60سم ذات أوراق شبة أبرية دقيقة وأزهار بيضاء إلى قرنفلية أورجوانية باهتة تنمو على شكل سنابل وهي دائمة الخضرة تنتشر عشوائياً). إننا مباركون بنعم لا تحصى.
وأؤكد للحبيب أن المناسبة مفرق للتغيير الايجابي بحول الله وقوته وان كلمة الحق لا تُزعل ، بل أنا من كتب : " قلها رجاء فهي دليل حب ! "